من أحد أعمالي الروائية -التصنيف: رومانسية-

تفاصيل العمل

الفصل السادس عشر

-حيث رأيتها هناك لأول مرة-

بدت على وحيد نظرات غامضة، كانت الثامنة مساء قد حلت، وبدأت الأفواج المسائية التي ظلت طوال اليوم نائمة بالخروج، كانت المنازل تضيق على سكانها، فيكون الحي كله متسعا لها، علا أصوات الأطفال، نقاشات كبار السن، ضحك الشباب.. أين وحيد من كل هذا..

أقحم أصابعه في سرواله، وخرج، أوقفه حكيم:

-إلى أين؟

-سآخذ دورة حول الحي، أرغب بتفريغ ذهني، كي أعرف ما عليّ فعله..

بدا حكيم لوهلة مترددا، كان يعرف حالة وحيد النفسية، كان يشعر أن وحيد ليس على ما يرام، تنهد وهو يربت على كتفه:

- اذهب.. سأكون في المقهى...

أما وحيد، نفسه لا يعلم ما عليه فعله تذكر بحر مريزيكة، ابتسم، لما لا يرمي نفسه هناك، ليبتلعه البحر، ولينهي كل شيء، بالأصل كانت الحياة لا تحتمل، في كل مرة كان ينتظر أن يغرق، ويصل للقاع، لأجل أن يضرب برجليه، ويصعد مجددا للسطح، لكن لا وجود لهذا القاع اللعين، في كل مرة يجد أنه يغرق أكثر فأكثر..

سمع حركة غريبة في الحي، صرخ أحدهم وهو يجري وسط الناس:

-هناك اشتباك مسلح، فليقفل الجميع النوافذ.. ادخلوا..

توسعت عيناه وهو يرى الجميع يدخل لمنازلهم، وكأنهم لم يكونوا قبل قليل، دار رأسه بسرعة، هل هم نفس الأشخاص الذين تبادلوا آخر مرة النار، وسقط شريف ميتا..

ابتسم ها هو الموت جاءه لوحده، ودون مقدمات، ليس هنالك حاجة للذهاب إلى مريزيكة، قد يفشل في الانتحار كما فشل المرتين السابقتين، كما أنه سباح ماهر من القوات البحرية..

لمح بضع شباب قفزوا من الأسوار والأسطح، لم يفهم ما يجري، ومن هؤلاء، ولما لم تمسكهم الشرطة، وما هدفهم، سمع أحدهم وهو يمر من أمامه:

-أسرعوا، هم قادمون من هنا.. قوموا بإعلام كل الأحياء..

تقدم عكس ما يتدافع به الناس لدخول منازلهم، سمع صوت الرصاص، هرول وهو يتقدم اتجاه الصوت، توقف وقد اعترته دهشة كبيرة..

وقفت وسط الشارع فتاة غريبة، شدت عليها معطفا صوفيا خفيفا، فجأة وضعت يداها على أذنه وهي ترتعش، في حين ظل شعرها يتطاير مع سرعة الرياح..

توقف عقله تماما أمامها..

****

مرت دموع سهيلة بحرقة، وهي تتذكر أمامها شريط حياتها الذي لم يتجاوز العشرين سنة، لتنتهي أيامها بهذه السرعة البالغة، كان لها تصور طبيعي حول طبيعة موتها، ستدفن في مقبرة صغيرة بوهران تحتضنها هناك في بلدها..

لكن كانت طريقة موتها في تصورها أقل إيلاما، لا رميا بالرصاص، يعني أن تموت بسبب مرضها، أو مثلا بنزلة زكام، أو هي نائمة مثلا..

لكن الرصاص؟ وفي بلد غريب؟ كانت صغيرة حين كان لا يزال الوطن هناك مستعمرا، أخبروها عن الرصاص والدبابات والجنود، لكن لم تتخيل ان تكون وسط الحدث تماما..

مرت دموعها، الظاهر أن زكية ستبقى وحدها، سبقها بن عاشور، وها هي قادمة تتبعه..

تذكرت زكية وهي تتحدث بحقد عن وطنهم السابق، وكيف تتحدث ياقوت بحقد عن وطنهم الحالي، أيهما عليها أن تختار، بين من طردهم؟ أم بين ما تشعر بالغربة حوله..

بدا لها بن عاشور هادئا وسط الحفرة، ودموعه كانت لا تزال تستقر على جفنيه، وضغطت أكثر على أذنيها، وجمعت بين مرفقيها في محاولة يائسة لأجل حماية قلبها وصدرها لأجل ألا تخترقه رصاصة طائشة..

فجأة..

شهقت وهي تشعر أن أحدا ما احتضن رأسها وأبعدها من هناك، انتفضت وهي تنظر له، شاب غريب، أخذها جانب الجدار، حيث تتواجد خرسانة كبيرة، اختبأ معها، قرفص كلاهما، كانت لا تزال يده على رأسها، وفمه يزفر على رأسها، سمعت دقات قلبه وهي تتسارع تحت أذنها، كانت له رائحة لطيفة.. اشتد رمي الرصاص بدوي مخيف، ارتعشت هي بخوف شديد، دفع رأسها من صدره، ونظر إليها، كانت جميلة بحق، أعين واسعة بلون عسلي، وشعرها الكستنائي انتشر على كتفيها، بدا أنفها دقيقا صغيرا، ارتعشت شفتاها وهي تنظر في فراغ..

ارتعشت يداه وهو يراها تعض لسانها بقوة، نزف فمها وتساقطت قطرات دماء على كفيه، لم يفهم من هذه الفتاة؟ أو ما يجري..

****

أما وحيد فطوال العشر المليارات من الدقائق التي عشاها في حياته، لم يتوقع أن يكن في هذا الموقف الغريب.. خرج للبحث عن الموت، فأنقذ فتاة لا يعرفها من الموت، وفوق كل هذا كانت تعض لسانها في حركة غريبة، اهتز جسدها بين ذراعيه في نوبات متتالية، ظل يحدق لها، في حين أمسكت هي كفيه بكفيها وكأنما تحاول تهدئة نفسها..

تصبب وجهها بالعرق، وتلوت ملامحها في ألم شديد، صرخ وهو يحتضن رأسها:

-لا تعضي لسانك، ستموتين، اهدئي..

ارتعشت عيناها دون أن يغمى عليها، هز رأسها:

-هيا، لا تفعلي، لا تعضي..

لهثت وهي تفلت لسانها بهدوء، هدأت وهي تتأمل عيناه اللتان بدتا وكأنهما تحتضنان محيط الذي امتد أمام وهران، شعرت بالحنين والحزن في الان نفسه..

حضن رأسها على صدره، وكان يرثي حالها، فهو لم يرى في حياته ردة فعل مشابهة بسبب الخوف، تنفست هي بهدوء، كانت تشم رائحة معطفه التي كانت كأفيون معتق..

هدأ الرصاص، وأصبح بوسبير هادئا، سألها بهدوء:

-من أين أنت؟ لم يسبق لي رؤيتك..

أشارت بأصبعها في الفضاء، رفع رأسه ليرى أنها كانت تشير للشارع المؤدي للميناء، كان يعرف أن حالتها غير مستقرة، أمال برأسه ليطل على الشارع، بكت هي وتمتمت:

-كنت سأموت..

انزل نظره لها، وابتسم:

-وهل تخافين الموت؟

هزت رأسها موافقة، أفلت رأسها، وحاول النهوض، ابتعد عن الخرسانة، في حين بقيت هي جالسة تسند ظهرها عليها، وقف وسط الشارع بتهور، وفتح ذراعيه:

-لكني لا أخاف الموت، بل كنت أبحث عنه..

شهقت وهي ترفع رأسها:

-تعال، ستموت، رجاء..

اقترب وهو يعود ويجلس قربها، أسند ظهره على الخرسانة، ومد رجليه..

لمح صرصورا قربه، حمله بين أصابعه وسألها دون أن يلتفت لها:

-هل تحبين سمك الجمبري؟

أجابته وهي تتنفس بهدوء:

-أجل..

-إذن أنت تتناولين صراصير البحر، لأن الصراصير العادية والجمبري من سلالة واحدة، من سلالة القشريات، لا فرق بين سلطة الجمبري، وبين سلطة الصراصير..

التفتت له بصدمة، قرّب منها الصرصور الذي قاتل بضراوة بين أصابعه، انتفضت وهي تقف:

-يا ويلي..

تركه ويفلت، وعقد ذراعيه، في حين هي انطلقت للحي، تحاول البحث عن أي زقاق منزلها، أما هو ظل يشيعها بهدوء وهي تتوارى داخل الأزقة.. وقف وهو ينفض ملابسه من الغبار، ظهر له جسمين غريبين يلمعان في الظلام، اقترب وهو يحملهما، قلّبهما بين يديه، وابتسم:

-ذكرى جميلة..

استقرت رصاصتين ذهبتين في جيبه..

ولأول مرة، شعر وحيد بالحياة مجددا..

بطاقة العمل

اسم المستقل Afaf M.
عدد الإعجابات 14
عدد المشاهدات 1206
تاريخ الإضافة
تاريخ الإنجاز